-
أيامي – عودة الشيخ جاد الحق ( 5 ) الزاهد
د . محمد أبو زيد الفقى :
في إحدى
زياراتي الأسبوعية لفضيلة الإمام الأكبر الشيخ جاد الحق :
قال لي : لقد قمت بإنشاء مركز إسلامي في قريتي بطرة شمال
مدينة المنصورة طريق المنصورة دمياط ، و انفقت عليه كل ما كان معي من مال ، ولكن
المركز محتاج إلي بعض التشطيبات ، و الفرش ، فهل تستطيع مساعدتي في هذا الموضوع ؟
قلت : يا مولانا
أساعدك بعمري ، و سوف أذهب غدا إلي هناك
للمعاينة ، وعمل مقايسة و سوف أعرض الأمر
علي الأستاذ محمد رجب ، وهو لا يدخر وسعا في عمل كل ما يرضيك .
ذهبت إلي بطرة مسقط رأس الشيخ ، وعاينت المركز الإسلامي ،
فوجدته عملاقا يحاكي خمسة أدوار ، به دار مناسبات ، ومسجد ، ومستوصف ، و ورش
لتعليم الحرف للشباب ، وحاولت بالاستعانة
بمهندس كريم – قريب الشيخ – حصر المطلوب للمركز علي وجه السرعة ، و بعد
الجمع و الطرح ، اتضح أن المبلغ المطلوب هو مائة و ثمانون ألف جنيه ، و كان هذا
المبلغ في ذاك الوقت ينجز أعمالا كثيرة .
بعد العودة من بطرة أرسلت رسالة للأستاذ محمد
رجب للتكرم بصرف هذا المبلغ ، و قام الرجل علي الفور بتوقيع الشيك ، و
إرساله لي ، وكلمت مكتب الشيخ أسأل عنه حتي
أسلم له الشيك ، فقالوا لي : أنه سافر إلي السعودية لحضور حفل توزيع جائزة الملك فيصل لأنها كانت
من نصيب الشيخ هذا العام ، فانتظرت حتى عاد الشيخ ، و ذهبت إليه للتهنئة بهذا
التكريم ، وبعد وقت قليل ، و كنا بمفردنا
في المكتب أخرجت الشيك من جيبي و أعطيته
للشيخ .
فقال لي : رد
الشيك إلي صاحبه ، و قدم له نيابة عني خالص الشكر ، و الامتنان ، لقد أغنانا الله
، و أعطاني مالا كثيرا ، و سأنفقه كله علي هذا المركز ، وبالفعل تم له ما أراد ، و أنفق جل المبلغ علي المركز
الإسلامي ببطرة ، و هو يعمل الآن علي أحسن ما يكون ، لقد كان الشيخ من زهاد زمنه ،
و لم يكن له نظير في زهده ، و طهارته ، ونقاء سريرته ، لقد
أنفق ماله ، وجهده طيلة حياته في سبيل الله .
ولما تولي مشيخة الأزهر جعلها تفوح مسكا ، وعطرا من طهارته ، و إخلاصه .
بعد أيام من
لقائنا طلبني علي الهاتف ، و سمعت صوته على الجانب الأخر ، وقبل أن يأمرني بما
يريد ، قال لي : هل ترى في صوتي شيئا
غريبا ؟
قلت : لا أسمع شيئا غريبا .
قال : لا
تجاملني .
قلت : ماذا حدث
يا مولانا ؟
قال : لدي مرض
في رأسي في المخ ، و ربما تكون نهايتي
بسببه ، و لكني فكرت قبل الموت أن أطلب
منك بناء معهد في قرية ( كذا .. ) لأن
أهلها فقراء ، و يحبون الأزهر حبا عظيما .
قلت : سأفعل ما تأمرني به ، و سوف آتي لزيارتك قبل
الموعد المحدد لأقف علي هذا الأمر . و بالفعل ذهبت للشيخ ، و صرح لي بأنه يعاني من
مرض خطير بالمخ ، ولا علاج له .
قلت : يا مولانا ، و كيف تأتي إلي المكتب ، و أنت في هذه
الحالة ؟
قال : أريد أن انفق كل لحظة باقية في حياتي في سبيل
الأزهر الشريف . و بعد هذا اللقاء بأسبوعين هاتفني الشيخ .
قال لي : أريد
أن أراك سريعا .
قلت : في الغد بإذن الله تعالى ، وفي الغد سألت عنه في
المكتب فقالوا لي إنه لم يحضر اليوم ، و أرسلنا إليه الأوراق لتوقيعها في البيت ،
و في اليوم التالي علمت أنه جاءته أزمة صحية في الليل ، و نقلوه إلي المشفى ليلا ،
و في التاسعة صباحا فارق دنيانا الضيقة إلي ربه سبحانه و تعالى . شعرت بأمرين
يتنازعان قلبي و يعتصرانه .
الأول : أني أدركت أن الشيخ كان يريد رؤيتي في البيت لا
في المكتب كما ظننت ، و قد ضاعت علي َّهذه
الفرصة ، و لن ألتقي به إلا في الدار
الآخرة ، و حزنت حزنا عظيما آلم قلبي ، و عقلي .
الثاني : أنه
بموت هذا الرجل قد غابت شمس الأزهر ، و حل علينا ليل بهيم ، و فكر سقيم ، و ظلم
عميم ، و آلمني كثيرا أنه لم يُقدَّر كما ينبغي ، ولم يصبح مثلا أعلي في الزهد ، و
الطهارة ، و الإدارة ، و لم يفهم الدهماء ، و السوقة ، و السابلة الفرق بين
الجواهر ، و الأحجار التي تحيط بها داخل الكنوز الكبيرة .
بذنوبنا أعطانا الله جهلا يغنينا عن كل علم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق