سنابل العزة

السبت، 5 مارس 2016

إعدام رفيق عبد الغفور ــ بين عدل الملحد ــ وظلم العالم



                                                                                                الكارثة الكبرى
                                                                                            في إخراج الله
  من معادلة الحياة (7)
131- 
            عاش عبد الغفور لا يملك من حطام الدنيا شيئا ، كان يعمل أجيرا عند أصحاب الأرض الزراعية  في قريته ، رضي بما ظن أنها قسمة الله ــ هكذا سمعها من الشيوخ في صلاة الجمعة و كل جمعة  ــ ولم يحاول تغيير واقعه ، تزوج بنتا فقيرة  من القرية ، حالها مثل حاله ، ورزقه الله منها بطفل جميل ، سماه رفيق أملا أن يكون موفقا في الحياة أكثر منه ، ونذره للعلم ، وكان يذهب للعمل صباحا ، ويعود مساءً ، ويتناول العَشاء مع زوجته ، ويسعد قليلا بابنه ــ وما أقل السعادة في حياة الفقراء  ـــ  ثم ينام بعد أداء صلاة العِشاء في المسجد ، وعودته إلي بيته ، ومضت الحياة علي هذا النحو ــ وما أقل المفاجآت في حياة الفقراء ــ  وفي يوم من الأيام عاد من الحقل ، مصفر الوجه ، مرتعش الأطراف ، يعاني من القيء و الإسهال في وقت واحد ، استغاثت بهية زوجته  بالجيران ، أناس طيبون ، ولكنهم لا يملكون له ضرا ولا نفعا ، نصحوه بتناول شراب الشيح ، وأنه سيصبح معافا إذا أراد الله ذلك ، وعند الفجر  أيقظ عبد الغفور  زوجته ، و أخبرها أن القطار
 قد وصل ولابد من الرحيل ، ولم تفهم شيئا  ، ولكنه أخبرها أنه سيموت بعد قليل ، وسيترك لها الفقر ، والحاجة ، و رفيق ابنهما ، و أوصاها إن استطاعت أن تكمل تعليمه بأي طريقة  فسيلقاها عند الله يوم القيامة  شاكراً ، و إن لم تستطع فلا جناح عليها ، لأنه يعلم ما تركه لها .
        عند شروق الشمس خرجت روح عبد الغفور ، و انطلقت مع شعاع الشمس إلي عالمها الأرحب ، وبعد أيام من الوفاة ــ لا تسأل عن العزاء بالنسبة للفقير  في عام 1940م ، فقد كان الفقراء يعيشون ويموتون دون أن يعرفهم أحد ــ خرجت بهية إلي الحقول مكان زوجها بالنهار ، و كانت تواصل العمل في نهاية كل يوم  في بيوت الأغنياء حتى تحصل علي دخل يسمح بمعاشها  وابنها رفيق  بالإضافة إلي مصاريف تعليمه .


      تخرج رفيق من الجامعة في أوائل الستينات  من القرن الماضي ، وبسبب شغفه  بالعلم وجمال شكله ، وقوة بنيانه  ، اختاره المسئولون للعمل في منظمة الشباب الاشتراكي ، وبعد تخرجه أُرسل مع بعثة من الطلاب ، إلي الاتحاد السوفيتي ــ روسيا الآن ــ  و أقاموا في نزل للشباب في مدينة  موسكو ، و أتقنوا اللغة الروسية ، وحصلوا علي الماجستير ، وسجلوا  للدكتوراه ، و كان موضوع رسالة رفيق عبد الغفور يتعلق بالثقافة المصرية الإسلامية  ، فاخبروه في الدراسات العليا أن رسالته تنقسم إلي موضوعين ، موضوع يدرسه في موسكو فإذا أنجزه بعد المناقشة العلنية ، يعود إلي مصر لدراسة الموضوع المكمِّل ، حتى يستطيع الحصول على  درجة الدكتوراه ، وتم توزيعه مع زملائه  علي الأساتذة المشرفين في الجامعة الروسية ، وساقه حظه إلي أستاذة عالمة دقيقة في الأربعينيات من عمرها ، لم يغادرها الجمال الفاتن بعد ، كان رفيق يجمع المادة العلمية ، وينظمها ويذهب بها إلي الدكتورة روزاكوف في مكتبها ، ولما وجدت منه حرصا علي العلم دعته إلي بيتها ليلا  لمزيد من الدراسة ، و أعطت له تصريحا بأن يأتي إليها من الساعة الثامنة ، وحتى العاشرة ، ولما اعتذر بحجة عدم إزعاج الأسرة ، أخبرته بأنها انفصلت عن زوجها منذ سنوات و أعطته الأولاد ، وهى تعيش وحدها الآن .
    كان رفيق يذهب إليها في كل ليلة ، وكانت تجهز له عشاءا طيبا ، وشرابا ساخنا لأنه رفض من البداية تناول الخمر  واحترمت  رغبته ، بل جهزت له مصلاه وعرفت القبلة في بيتها لكي يصلي العشاء وهو يتجه إلي القبلة ، وبذلت معه مجهودا غير عادي في انجاز رسالته ، وبعد ثلاثة أشهر  ، لاحظ رفيق أن الأستاذة بدأت تتزين وتسعد بلقائه  واستشعر أن الشيطان قد لعب برأسها ، ولكنه قال لنفسه : ربما كان هذا ظنا ، ومن حقها أن تفعل في بيتها ما تشاء ، ولكن ذات ليلة جلست معه ، وقالت  له : أنا ما زلت أساعدك من أجل العلم فقط ، ولكن جمالك وقوتك ، واعتزازك بنفسك كل ذلك  قادني إلي سلوك آخر  ورغبة ملحة .
قال: وما هي هذه الرغبة ؟
قالت : أتزوجك
قال: دعيني أفكر لأن الزواج مسئولية
قالت: الزواج هنا في موسكو ليس مثل الزواج عندكم
فقال : كيف ؟
قالت: الزواج هنا لا يحتاج عقد ومهر، وتجهيز بيت، ولكنه يحتاج فقط إلي اثنين يرغبان في  
        العيش معا
قال رفيق : إذن هي المعصية يا سيدتي  ، وهم بالقيام ، ولكنها جذبته  بعنف إليها  ، و أوضحت
             له ما تعانيه من قسوة الرغبة تجاهه ، ولكنه أبعدها عنه و انصرف ، وعاد إلي
             مسكنه وبكى بكاءا شديداً، وقال في نفسه: كيف تكون الفاحشة ثمنا للعلم، وبقي أياماً
            حزينا حتى قابلته في الجامعة، و أخذته إلي مكتبها، وسألته عن أبحاثه بعد انقطاعه
              عن بيتها ؟
فقال لها : أنا لم أكتب حرفا واحدا ، لأنني في النهاية سأحصل علي صفر ، بسبب ما حدث بيننا
قالت له:  لا تقل هذا إن العدل يمنعني من سلب حقك في التفوق وضياع مجهودك، و إن كنت
           غاضبة منك حتى الآن  .
        عاد رفيق إلي زملائه و أخبرهم بما حدث، فقالوا له جميعا: لا أمل لك في هذا الشق من
          الدكتوراه .
         بعد شهور انعقدت اللجنة التي ستناقش الباحث رفيق عبد الغفور، في مدرج من مدرجات   الجامعة، وكانت اللجنة مكونة من الأستاذة المشرفة، د. روزاكوف ، وعضوين آخرين   للمناقشة ، بدأت المناقشة ، و رفيق حائر بين ما سمعه من الدكتورة عن العدل ، وما سمعه
من زملائه ، قدمت  د. روزاكوف رفيق أفضل تقديم  ،
وقالت : إنه طالب متميز  يتمتع بالخلق الحسن  ، ويتميز بتمسكه بدينه ، ثم دافعة عنه طوال المناقشة ، وعندما دخلت اللجنة للتداول ، كاد قلب رفيق أن يقع من صدره  في قدميه ، وتذكر عودته إلي قريته ، ولقاء أمه التي عاشت له  وعاشت عليه ، وتذكر ما فعله مع د. روزاكوف  ، ولم يطل الوقت ، و أُعلِن حصول رفيق  عبد الغفور علي الشق الأول من الدكتوراه ، بمرتبة الشرف الأولى ، وانبهر رفيق بعدل هذه السيدة ، وحاول تقبيل يدها ــ كعادة قميئة عندنا ــ ولكنها قبلته واحتضنته ، وبادلها بالقبلات والأحضان ، ونسي من فرحته  و دهشته ، أن هذا حرام  ولا يجوز ، ولكن اللحظة  كانت مبهرة  وقاهرة في ذات الوقت .
 
          بعد أيام رحل رفيق عن موسكو، وقبل أن يركب الطائرة رمق من بعيد د. روزاكوف ، اتجه إليها  ، وسألها عن سبب حضورها ؟
 قالت : جئت لوداعك ، برغم أنني ما زلت غاضبة منك ،  و يا ليتك بعد عودتك تدعوني لزيارة
        مصر  ، وتتزوجني بالطريقة الشرعية في دينكم .
 بكى رفيق وقال: يا سيدتي: إن الإسلام لا يسمح لنا بالزواج إلا من اليهوديات والمسيحيات،
                      ولكنكم لا تؤمنون بأي دين من الأديان الثلاثة .
قالت: أنت تبخل علي بالأمل مجرد الأمل، ومع هذا أرجو لك التوفيق يا رفيق، ولعلك تكون
        قد غضبت علَّي كسيدة، ورضيت عنى كأستاذة، والعلم رحم بيننا، و إن انقطعت الأسباب
        الأخرى.
       عاد رفيق إلي مصر و فرح به أهل قريته، وقرت عين أمه بما وصل إليه، وبعد أيام سافر إلي الجامعة، وقدم أوراقه للكلية المعنية بدراسته، وانعقد مجلس القسم المختص بالموضوع،
و أسند الإشراف إلي أ.د. ذلقوم ، وطلب ذلقوم رؤية الباحث ، وسأله كثيرا عن موسكو ونساء موسكو، فأخبره رفيق أنهم قوم رجالا ونساء يحبون العمل والقراءة وهى أشياء مقدسة عندهم .
 طلب د. ذلقوم من رفيق زيارته في المسجد الذي يصلي فيه ، وذهب رفيق في يوم الجمعة وصعد ذلقوم المنبر ، و أبكى الناس من حديثه عن الزهد ،  و استدعى كل الخرافات والخزعبلات التاريخية  عن زهد الناس فيما مضى  قبل مجيء هذا الزمان الأغبر ، وبعد الصلاة اصطحب رفيق إلي بيته  و أخبره  أن له عمارتين في هذه المنطقة  ، و دلجا الاثنان إلي المنزل  في الدور الأرضي ، في شقة مظلمة خلف محلات العمارة ، وتناولا طعاما رديئا ، وسأل د . ذلقوم رفيق عن بلدته  ومحافظته ، ومن سوء حظ رفيق أنه كان من محافظة يكثر فيها إنتاج الأسماك  ، فقال د . ذلقوم : إذن سنأكل بإذن الله أسماك كثيرة ، وسمع صوتا من الداخل فقام لإدخال الشاي ، وبعد جلوسه قال لرفيق : الحاجةَّ سمعتنا نتكلم عن السمك ، و أبدت رغبتها في أنك تحضر لنا عشرة كيلوجرام من البلطي ، ومثلهم من البوري ، و إياك أن تنسى السمن البلدي ، لأن بلادكم غنية بذلك .
     عاد رفيق إلي قريته  ولم يكن قد توظف في أي عمل  بعد ، ومن أجل إحضار هذه الكمية الكبيرة التي تطعم حديقة الحيوانات  ، خلع ملابسه الشيك ، وعاد للعمل في المزارع ، حتى  توفَّر لديه المال الذي يشتري به الأسماك  والسمن ، وكان في ظنه أنه سيقبض الثمن من ذلقوم  ذلك التقي الورع ، وذهب فرحا إلي ذلقوم في بيته ، وسلمه الأسماك ، و السمن البلدي ، وجلسا ، وتكلما في موضوع الرسالة وحدد له ذلقوم الأبواب والفصول التي سيعمل عليها ، وبعد فترة ليست بالقصيرة  أحضرت الحاجة الشاي ، وقالت لرفيق : حصلت البركات ، هديتك مقبولة ،
ولكنى سمعت أن عندكم أسماك أكبر حجما من هذا، و أنا أريد عمل غداء مجمع للأولاد.
 قال ذلقوم  : عندنا ثلاثة أولاد ، وثلاث بنات ، وكلهم متزوجون ، ولنا أحفاد كثيرون ، وكل
                هؤلاء سيأتون للغداء ، فشد حيلك  يا بطل أتمنى أن تشرفني أمام الأولاد ، عاد رفيق إلي قريته  ووجد أن عمل الحقل لا يكفي  ، فعرض الأمر علي العمدة ، ورجال القرية  الأغنياء  ، فساعدوه ، وذهب إلي القاهرة بالسمك ، وتكلم مع  ذلقوم  في  الرسالة وقال  له برغم ظروفي الصعبة ، لقد أنهيت البحث  و أريد تحديد موعد للمناقشة ،سوَّف ذلقوم ، وكلفه بأشياء أخرى يحضرها  من بلده ، وبدأ رفيق يبع ملابسه ، وهدايا التفوق التي حصل عليها  من مصر ، ومن موسكو ، و من د . روزاكوف ، وفي عودته مرة أخرى إلي ذلقوم ، وضع الأسماك في كيس من البلاستيك  داخل كرتونة ، كما كان يفعل دائما ، ولسوء حظه حدث حادث  مرور بالطريق الزراعي ، و تأخر لمدة ست ساعات ، وعندما  ذهب إلي بيت ذلقوم  ، وسلم له
الأسماك ، و أخذها  ودخل بها إلي الداخل ، وعاد بعد قليل مكفهر الوجه ، وقال لرفيق : يا كلب يا حيوان تأتي لي بأسماك عفنة متحللة ، أنت عاوز تموتني أنا و أولادي  ، والله الذي لا إله إلا هو لن تحصل علي هذه الرسالة أبدا .
       وخرج رفيق مذعوراً ، وقدم شكوى للعميد ، فأمر بتشكيل لجنة لبحث الموضوع  والعرض علي القسم  ومجلس الكلية ، ولكن ذلقوم حضر ، و أقسم بالله  وعلي كتاب الله أن هذا الباحث سرق هذا الإنتاج العلمي ، و أنا مهمتي أن أحافظ علي العلم ابتغاء وجه الله تعالي . وفكر رفيق في الشكوى لكل المسئولين في مصر ، ولكن العميد نصحه بعدم الشكوى ــ كان رجلا طيبا وصادقا ــ  والاكتفاء بالشكوى لله تعالى
وقال له :  يا ولدي لا تيأس من رحمة الله فهناك في مصر ذلاقيم كثيرة  .
 وسحب رفيق الأوراق ، ونقلها إلي جامعة أخرى .
      عاد رفيق إلي القرية بعد أن نقل أوراقه ، وشكي لصديق له ، فقال له : إن مصيبتك كبيرة  ، وتعالى معي إلي الإسكندرية لقضاء يومين لعلك تستريح ، ذهب معه إلي الإسكندرية  ووقف
علي شاطيء البحر عند الغروب ، ووجد الشمس يُخيل إليه أنها تنزل الماء ، لتصنع ناراً في المياه ، وهذه صورة من صور يوم القيامة [  وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ ] الآية 6 سورة التكوير ،  فتعزَّى رفيق  و تصبر بذلك ، ورفع يديه إلي السماء  وقال : اللهم انتقم من د . ذلقوم  انتقاما سريعا منجزا ، كان ذلقوم يجلس في بيته مع أبنائه جميعا  و أحفاده في حالة من الفرح  والبهجة ، بسبب عيد ميلاد الحجة
[ ست الحبايب ]  وفجأة انهارت العمارة عليهم ، وحضرت الشرطة و أخرجوا كثيراً من السكان ، إلا أن أسرة  د. ذلقوم لم يخرج منها أحد لأنهم أخرجوا الله من معادلة حياتهم  .
{ قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ } الآية 26 سورة النحل .
في هذه اللحظة كان رفيق عبد الغفور يفكر فيما حدث له ويقول يكفى أنني أتمتع بشرف الإسلام  ويهتف أمام صديقه : ليتني مسلم  في بلد شيُوعي .


                                   بذنوبنا أعطانا الله جهلا يغنينا عن كل علم
 ا.د. محمد أبوزيد الفقي

25جماد الأولى 1437هــ ، 5 مارس  2016م

www.sanabelalezaa.com   الموقع الالكتروني
Dr. MoHaMMeD Abo ZeeD AlfeQy   صفحة الفيس بوك   
  #سنابل_العزة





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق