الكارثة الكبرى
في إخراج الله
من معادلة الحياة (7)
131-
عاش عبد
الغفور لا يملك من حطام الدنيا شيئا ، كان يعمل أجيرا عند أصحاب الأرض
الزراعية في قريته ، رضي بما ظن أنها قسمة
الله ــ هكذا سمعها من الشيوخ في صلاة الجمعة و كل جمعة ــ ولم يحاول تغيير واقعه ، تزوج بنتا
فقيرة من القرية ، حالها مثل حاله ، ورزقه
الله منها بطفل جميل ، سماه رفيق أملا أن يكون موفقا في الحياة أكثر منه ، ونذره
للعلم ، وكان يذهب للعمل صباحا ، ويعود مساءً ، ويتناول العَشاء مع زوجته ، ويسعد
قليلا بابنه ــ وما أقل السعادة في حياة الفقراء
ـــ ثم ينام بعد أداء صلاة العِشاء
في المسجد ، وعودته إلي بيته ، ومضت الحياة علي هذا النحو ــ وما أقل المفاجآت في
حياة الفقراء ــ وفي يوم من الأيام عاد من
الحقل ، مصفر الوجه ، مرتعش الأطراف ، يعاني من القيء و الإسهال في وقت واحد ،
استغاثت بهية زوجته بالجيران ، أناس طيبون
، ولكنهم لا يملكون له ضرا ولا نفعا ، نصحوه بتناول شراب الشيح ، وأنه سيصبح معافا
إذا أراد الله ذلك ، وعند الفجر أيقظ عبد
الغفور زوجته ، و أخبرها أن القطار
قد وصل ولابد من
الرحيل ، ولم تفهم شيئا ، ولكنه أخبرها أنه
سيموت بعد قليل ، وسيترك لها الفقر ، والحاجة ، و رفيق ابنهما ، و أوصاها إن
استطاعت أن تكمل تعليمه بأي طريقة
فسيلقاها عند الله يوم القيامة
شاكراً ، و إن لم تستطع فلا جناح عليها ، لأنه يعلم ما تركه لها .
عند شروق الشمس خرجت روح عبد الغفور ، و
انطلقت مع شعاع الشمس إلي عالمها الأرحب ، وبعد أيام من الوفاة ــ لا تسأل عن
العزاء بالنسبة للفقير في عام 1940م ، فقد
كان الفقراء يعيشون ويموتون دون أن يعرفهم أحد ــ خرجت بهية إلي الحقول مكان زوجها
بالنهار ، و كانت تواصل العمل في نهاية كل يوم
في بيوت الأغنياء حتى تحصل علي دخل يسمح بمعاشها وابنها رفيق
بالإضافة إلي مصاريف تعليمه .
تخرج
رفيق من الجامعة في أوائل الستينات من
القرن الماضي ، وبسبب شغفه بالعلم وجمال
شكله ، وقوة بنيانه ، اختاره المسئولون
للعمل في منظمة الشباب الاشتراكي ، وبعد تخرجه أُرسل مع بعثة من الطلاب ، إلي
الاتحاد السوفيتي ــ روسيا الآن ــ و
أقاموا في نزل للشباب في مدينة موسكو ، و
أتقنوا اللغة الروسية ، وحصلوا علي الماجستير ، وسجلوا للدكتوراه ، و كان موضوع رسالة رفيق عبد الغفور
يتعلق بالثقافة المصرية الإسلامية ،
فاخبروه في الدراسات العليا أن رسالته تنقسم إلي موضوعين ، موضوع يدرسه في موسكو
فإذا أنجزه بعد المناقشة العلنية ، يعود إلي مصر لدراسة الموضوع المكمِّل ، حتى
يستطيع الحصول على درجة الدكتوراه ، وتم
توزيعه مع زملائه علي الأساتذة المشرفين
في الجامعة الروسية ، وساقه حظه إلي أستاذة عالمة دقيقة في الأربعينيات من عمرها ،
لم يغادرها الجمال الفاتن بعد ، كان رفيق يجمع المادة العلمية ، وينظمها ويذهب بها
إلي الدكتورة روزاكوف في مكتبها ، ولما وجدت منه حرصا علي العلم دعته إلي بيتها
ليلا لمزيد من الدراسة ، و أعطت له تصريحا
بأن يأتي إليها من الساعة الثامنة ، وحتى العاشرة ، ولما اعتذر بحجة عدم إزعاج
الأسرة ، أخبرته بأنها انفصلت عن زوجها منذ سنوات و أعطته الأولاد ، وهى تعيش
وحدها الآن .
كان رفيق
يذهب إليها في كل ليلة ، وكانت تجهز له عشاءا طيبا ، وشرابا ساخنا لأنه رفض من
البداية تناول الخمر واحترمت رغبته ، بل جهزت له مصلاه وعرفت القبلة في
بيتها لكي يصلي العشاء وهو يتجه إلي القبلة ، وبذلت معه مجهودا غير عادي في انجاز
رسالته ، وبعد ثلاثة أشهر ، لاحظ رفيق أن
الأستاذة بدأت تتزين وتسعد بلقائه واستشعر
أن الشيطان قد لعب برأسها ، ولكنه قال لنفسه : ربما كان هذا ظنا ، ومن حقها أن
تفعل في بيتها ما تشاء ، ولكن ذات ليلة جلست معه ، وقالت له : أنا ما زلت أساعدك من أجل العلم فقط ، ولكن
جمالك وقوتك ، واعتزازك بنفسك كل ذلك قادني إلي سلوك آخر ورغبة ملحة .
قال: وما هي هذه الرغبة ؟
قالت : أتزوجك
قال: دعيني أفكر لأن الزواج مسئولية
قالت: الزواج هنا في موسكو ليس مثل الزواج عندكم
فقال : كيف ؟
قالت: الزواج هنا لا يحتاج عقد ومهر، وتجهيز بيت، ولكنه
يحتاج فقط إلي اثنين يرغبان في
العيش
معا
قال رفيق : إذن هي المعصية يا سيدتي ، وهم بالقيام ، ولكنها جذبته بعنف إليها
، و أوضحت
له
ما تعانيه من قسوة الرغبة تجاهه ، ولكنه أبعدها عنه و انصرف ، وعاد إلي
مسكنه وبكى بكاءا شديداً، وقال في نفسه: كيف تكون الفاحشة ثمنا للعلم، وبقي
أياماً
حزينا
حتى قابلته في الجامعة، و أخذته إلي مكتبها، وسألته عن أبحاثه بعد انقطاعه
عن
بيتها ؟
فقال لها : أنا لم أكتب حرفا واحدا ، لأنني في النهاية
سأحصل علي صفر ، بسبب ما حدث بيننا
قالت له: لا تقل
هذا إن العدل يمنعني من سلب حقك في التفوق وضياع مجهودك، و إن كنت
غاضبة
منك حتى الآن .
عاد رفيق
إلي زملائه و أخبرهم بما حدث، فقالوا له جميعا: لا أمل لك في هذا الشق من
الدكتوراه
.
بعد شهور انعقدت اللجنة التي ستناقش الباحث
رفيق عبد الغفور، في مدرج من مدرجات الجامعة، وكانت اللجنة مكونة من الأستاذة المشرفة،
د. روزاكوف ، وعضوين آخرين للمناقشة ،
بدأت المناقشة ، و رفيق حائر بين ما سمعه من الدكتورة عن العدل ، وما سمعه
من زملائه ، قدمت د. روزاكوف رفيق
أفضل تقديم ،
وقالت : إنه طالب متميز يتمتع
بالخلق الحسن ، ويتميز بتمسكه بدينه ، ثم
دافعة عنه طوال المناقشة ، وعندما دخلت اللجنة للتداول ، كاد قلب رفيق أن يقع من
صدره في قدميه ، وتذكر عودته إلي قريته ،
ولقاء أمه التي عاشت له وعاشت عليه ،
وتذكر ما فعله مع د. روزاكوف ، ولم يطل
الوقت ، و أُعلِن حصول رفيق عبد الغفور
علي الشق الأول من الدكتوراه ، بمرتبة الشرف الأولى ، وانبهر رفيق بعدل هذه السيدة
، وحاول تقبيل يدها ــ كعادة قميئة عندنا ــ ولكنها قبلته واحتضنته ، وبادلها
بالقبلات والأحضان ، ونسي من فرحته و
دهشته ، أن هذا حرام ولا يجوز ، ولكن
اللحظة كانت مبهرة وقاهرة في ذات الوقت .
بعد
أيام رحل رفيق عن موسكو، وقبل أن يركب الطائرة رمق من بعيد د. روزاكوف ، اتجه
إليها ، وسألها عن سبب حضورها ؟
قالت : جئت
لوداعك ، برغم أنني ما زلت غاضبة منك ، و
يا ليتك بعد عودتك تدعوني لزيارة
مصر ، وتتزوجني بالطريقة الشرعية في دينكم .
بكى رفيق وقال:
يا سيدتي: إن الإسلام لا يسمح لنا بالزواج إلا من اليهوديات والمسيحيات،
ولكنكم لا تؤمنون بأي دين من الأديان الثلاثة .
قالت: أنت تبخل علي بالأمل مجرد الأمل، ومع هذا أرجو لك التوفيق
يا رفيق، ولعلك تكون
قد غضبت
علَّي كسيدة، ورضيت عنى كأستاذة، والعلم رحم بيننا، و إن انقطعت الأسباب
الأخرى.
عاد رفيق إلي مصر و فرح به أهل قريته، وقرت عين
أمه بما وصل إليه، وبعد أيام سافر إلي الجامعة، وقدم أوراقه للكلية المعنية بدراسته،
وانعقد مجلس القسم المختص بالموضوع،
و أسند الإشراف إلي أ.د. ذلقوم ، وطلب ذلقوم رؤية الباحث
، وسأله كثيرا عن موسكو ونساء موسكو، فأخبره رفيق أنهم قوم رجالا ونساء يحبون
العمل والقراءة وهى أشياء مقدسة عندهم .
طلب د. ذلقوم من
رفيق زيارته في المسجد الذي يصلي فيه ، وذهب رفيق في يوم الجمعة وصعد ذلقوم المنبر
، و أبكى الناس من حديثه عن الزهد ، و
استدعى كل الخرافات والخزعبلات التاريخية
عن زهد الناس فيما مضى قبل مجيء
هذا الزمان الأغبر ، وبعد الصلاة اصطحب رفيق إلي بيته و أخبره
أن له عمارتين في هذه المنطقة ، و
دلجا الاثنان إلي المنزل في الدور الأرضي
، في شقة مظلمة خلف محلات العمارة ، وتناولا طعاما رديئا ، وسأل د . ذلقوم رفيق عن
بلدته ومحافظته ، ومن سوء حظ رفيق أنه كان
من محافظة يكثر فيها إنتاج الأسماك ، فقال
د . ذلقوم : إذن سنأكل بإذن الله أسماك كثيرة ، وسمع صوتا من الداخل فقام لإدخال الشاي
، وبعد جلوسه قال لرفيق : الحاجةَّ سمعتنا نتكلم عن السمك ، و أبدت رغبتها في أنك
تحضر لنا عشرة كيلوجرام من البلطي ، ومثلهم من البوري ، و إياك أن تنسى السمن
البلدي ، لأن بلادكم غنية بذلك .
عاد رفيق إلي قريته ولم يكن قد توظف في أي عمل بعد ، ومن أجل إحضار هذه الكمية الكبيرة التي
تطعم حديقة الحيوانات ، خلع ملابسه الشيك
، وعاد للعمل في المزارع ، حتى توفَّر
لديه المال الذي يشتري به الأسماك والسمن
، وكان في ظنه أنه سيقبض الثمن من ذلقوم
ذلك التقي الورع ، وذهب فرحا إلي ذلقوم في بيته ، وسلمه الأسماك ، و السمن
البلدي ، وجلسا ، وتكلما في موضوع الرسالة وحدد له ذلقوم الأبواب والفصول التي
سيعمل عليها ، وبعد فترة ليست بالقصيرة
أحضرت الحاجة الشاي ، وقالت لرفيق : حصلت البركات ، هديتك مقبولة ،
ولكنى سمعت أن عندكم أسماك أكبر حجما من هذا، و أنا أريد
عمل غداء مجمع للأولاد.
قال ذلقوم : عندنا ثلاثة أولاد ، وثلاث بنات ، وكلهم
متزوجون ، ولنا أحفاد كثيرون ، وكل
هؤلاء سيأتون للغداء ، فشد حيلك يا
بطل أتمنى أن تشرفني أمام الأولاد ، عاد رفيق إلي قريته ووجد أن عمل الحقل لا يكفي ، فعرض الأمر علي العمدة ، ورجال القرية الأغنياء
، فساعدوه ، وذهب إلي القاهرة بالسمك ، وتكلم مع ذلقوم
في الرسالة وقال له برغم ظروفي الصعبة ، لقد أنهيت البحث و أريد تحديد موعد للمناقشة ،سوَّف ذلقوم ،
وكلفه بأشياء أخرى يحضرها من بلده ، وبدأ
رفيق يبع ملابسه ، وهدايا التفوق التي حصل عليها
من مصر ، ومن موسكو ، و من د . روزاكوف ، وفي عودته مرة أخرى إلي ذلقوم ،
وضع الأسماك في كيس من البلاستيك داخل
كرتونة ، كما كان يفعل دائما ، ولسوء حظه حدث حادث مرور بالطريق الزراعي ، و تأخر لمدة ست ساعات ،
وعندما ذهب إلي بيت ذلقوم ، وسلم له
الأسماك ، و أخذها
ودخل بها إلي الداخل ، وعاد بعد قليل مكفهر الوجه ، وقال لرفيق : يا كلب يا
حيوان تأتي لي بأسماك عفنة متحللة ، أنت عاوز تموتني أنا و أولادي ، والله الذي لا إله إلا هو لن تحصل علي هذه
الرسالة أبدا .
وخرج رفيق مذعوراً ، وقدم شكوى للعميد ، فأمر
بتشكيل لجنة لبحث الموضوع والعرض علي
القسم ومجلس الكلية ، ولكن ذلقوم حضر ، و
أقسم بالله وعلي كتاب الله أن هذا الباحث
سرق هذا الإنتاج العلمي ، و أنا مهمتي أن أحافظ علي العلم ابتغاء وجه الله تعالي .
وفكر رفيق في الشكوى لكل المسئولين في مصر ، ولكن العميد نصحه بعدم الشكوى ــ كان
رجلا طيبا وصادقا ــ والاكتفاء بالشكوى
لله تعالى
وقال له : يا
ولدي لا تيأس من رحمة الله فهناك في مصر ذلاقيم كثيرة .
وسحب رفيق
الأوراق ، ونقلها إلي جامعة أخرى .
عاد رفيق
إلي القرية بعد أن نقل أوراقه ، وشكي لصديق له ، فقال له : إن مصيبتك كبيرة ، وتعالى معي إلي الإسكندرية لقضاء يومين لعلك
تستريح ، ذهب معه إلي الإسكندرية ووقف
علي شاطيء البحر عند الغروب ، ووجد الشمس يُخيل إليه
أنها تنزل الماء ، لتصنع ناراً في المياه ، وهذه صورة من صور يوم القيامة [ وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ ] الآية 6 سورة التكوير ، فتعزَّى رفيق
و تصبر بذلك ، ورفع يديه إلي السماء
وقال : اللهم انتقم من د . ذلقوم
انتقاما سريعا منجزا ، كان ذلقوم يجلس في بيته مع أبنائه جميعا و أحفاده في حالة من الفرح والبهجة ، بسبب عيد ميلاد الحجة
[ ست
الحبايب ] وفجأة انهارت العمارة عليهم ،
وحضرت الشرطة و أخرجوا كثيراً من السكان ، إلا أن أسرة د. ذلقوم لم يخرج منها أحد لأنهم أخرجوا الله
من معادلة حياتهم .
{ قَدْ
مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ
فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ
مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ } الآية 26 سورة النحل .
في هذه
اللحظة كان رفيق عبد الغفور يفكر فيما حدث له ويقول يكفى أنني أتمتع بشرف
الإسلام ويهتف أمام صديقه : ليتني مسلم في بلد شيُوعي .
بذنوبنا أعطانا الله جهلا يغنينا عن كل علم
ا.د. محمد
أبوزيد الفقي
25جماد
الأولى 1437هــ ، 5 مارس 2016م
www.sanabelalezaa.com الموقع الالكتروني
Dr.
MoHaMMeD Abo ZeeD AlfeQy صفحة الفيس بوك
#سنابل_العزة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق