في حي من أحياء #القاهرة عاصمة جمهورية مصر العربية ، كان يعيش الحاج مسعد ، ملك الألبان كما كانوا يطلقون عليه ، بدأ حياته يجمع #الألبان من القرى المجاورة للقاهرة ، ثم يوزعها علي المحلات ، و المنازل ، ثم اكتشف بعد فترة أنه لو صنعها ، و حولها إلي جبن فإن ذلك سيعود عليه بالربح الوفير ، فاستأجر محلا كبيرا ، و حوله إلي معمل لإنتاج جميع أنواع #الجبن ، و تزوج من قريبة له ، و رزقا بثلاثة أولاد ذكور ، مراد و هاني و حسن ، و بدأت تجارته تتسع ، فاشترى أرضا ، و أقام عليها عمارة كبيرة ، جعل الدور الأول فيها لصناعة الجبن ، أما بدروم العمارة [ الدور الأسفل ] مخزنا للألبان ، و الجبن ، و الدور الأول علوي جعله معرضا لمنتجاته ، و بدأ تجار الألبان يأتون إليه من كل مكان ويبيعون ألبانهم له ، بالإضافة إلي أنه أنشأ مزرعتين لإنتاج الألبان من أبقار مستوردة ، و برغم كل هذا الثراء إلا أنه كان دائما يرغب في المزيد ، وبدأ يقبل الألبان الصالحة و الغير صالحة للاستهلاك .من وقت لأخر كانت جبنه ملك الجبنه الحاج مسعد ، تصيب بعض الناس بالقيء و الإسهال ، و كانت تُحرر له وزارة الصحة محاضر باستخدام لبن غير صالح في صناعة الجبن ، و لكنه كان بأمواله و نفوذه يلغي أي مخالفة تحرر ضده ، و في أحد الأيام كان يحكي لأحد أصدقائه ما يحدث له من شكاوى الناس ، و كفران نعمته عليهم ، لأنه ينتج لهم بسعر رخيص ، و لكنهم لا يُقدرون ذلك .
فقال له صديقه : إذا كان الملح و النار ، لا يستران فساد اللبن ، فعندي اقتراح يريحك من كل هذه المشاكل .
قال الحاج مسعد : و ما هو ؟
قال الصديق : تضيف قليلا من مادة الفورمالين ، و هي كفيلة بالقضاء علي جميع أنواع البكتيريا و الفيروسات ، و لن تُحرر ضدك مخالفة بعد ذلك .
قال الحاج مسعد : و هل في هذه المادة ضرر علي صحة الناس ؟
قال الصديق: الضرر قليل، و معدة المصريين تهضم الزلط، فلا تخف من أي شيء.
و مضى الحاج مسعد يصنع الجبنه بالفورمالين ، و الناس تتكاثر علي مصنعه ، و محلاته ، و كان لأكبر شارع في هذا الحي النصيب الأكبر من تناول هذا الجبن بكافة أنواعه .
أنهى ابنه مراد التعليم الجامعي ، و تعلق قلبه بزميلة له ، و أحبها حبا شريفا عفيفا ، و أخبر والده برغبته في الاقتران بها ، فرحب بذلك ، و تم عقد القران ، و تحديد موعد للزفاف بعد عامين ، حتى تكون سلوى قد انهت دراسة الماجستير ، و كان هذا هو شرطها ، و شرط أبيها الوحيد ، و وافق مراد لأنه لا يرى في الدنيا غيرها ، و وافق والده الحاج مسعد علي مضض .
في أحد الأيام و حسن الابن الأصغر عائد بسيارته من الجامعة ، و هو في الطريق اعترضته سيارة قادمة من المخالف ، فحاول تفاديها ، و انحرف بسرعة ، و لم يستطع السيطرة علي السيارة بعد ذلك ، و قفزت به في النيل بقوة ، و بعد ثوان استقرت به السيارة في قاع النيل ، و تجمع الناس و أبلغوا الشرطة ، وتم إخراجه بعد ساعات طويلة من البحث ، و عندما رآه والده الحاج مسعد ، أصيب بجلطة في القلب و سقط ميتا ، و تم دفن الاثنين في مكان و زمان واحد ، و لما علمت الحاجة تفيدة زوجة الحاج مسعد بغرق حسن ووفاة أبيه ، و أصيبت هي الأخرى بجلطة في المخ ، و شُلَّت شللا رباعيا ، و غادرت الدنيا بعد أسبوع لتلحق بأحبابها .
تعجب أهل الحي مما حدث للحاج مسعد و ابنه وزوجته ، و كانوا لا يعلمون عنهم إلا خيرا ً ، و تقلصت الأسرة و لم يبق منها إلا مراد الذي تولى إدارة المصنع بعد أبيه بنفس الأسلوب ، و هاني الذي كان في نهائي طب أثناء هذه الحوادث الجسام . حاولت سلوى أن تخرج مراد من عزلته و أحزانه ، و كانت تصاحبه كثيرا بعد أن ينهي عمله في المصنع ، و اقترحت عليه رحلة نيلية يوم الجمعة من كل أسبوع ، فكان يذهب إلي بيتها لتناول الغداء مع أسرتها ، ثم يخرجا بعد العصر في رحلة من حي شبرا إلي القناطر الخيرية [ مكان جميل للترويح عن النفس و عندها ينقسم النيل إلي فرعي رشيد و دمياط ] و في أحد الأيام و هما عائدان في القارب الخاص بهما نظرت سلوى إلي أشعة الشمس قبل الغروب ، و هي تنعكس علي مياه النيل ، لتصنع ألوانا متعددة ، مثل اللون الذهبي و الفضي في وقت واحد بسبب انكسار الأشعة علي أمواج الماء و هو يعلو فيكون ذهبيا ، و عندما يهبط يكون فضيا ، و لكن الأشعة أيضا في هذا الوقت [ وقت الأصيل و الغروب ] يمكن تصورها ناراً ضعيفة تشتعل في حقل أحد الفلاحين البؤساء ، كل هذه المعاني تجمعت في وجدان سلوى ، وهي تجلس علي حافة القارب صامته تنظر تارة إلي خطيبها المحزون ، وتارة إلي صفحة المياه التي تنطق بمعاني لا حصر لها ، و فجأة قطعت الصمت الرهيب ،
و قالت لمراد : ماذا تفعل لو سقطت منك في قاع النهر ؟
قال مراد : سأسقط خلفك لأنني لا أتصور الحياة بدونك أبدا.
قالت سلوى : يعني أما أن نغرق معا أو نعيش معا .
قال مراد : لن أتركك تغرقي حتى لو تحديت القدر، و ما أظن أن القدر قاسيا لهذه الدرجة.
قالت سلوى : أسأل الله تعالى أن يرفع عنا الأحزان حتى يجد حبنا سبيلا للأفراح التي حُرمنا منها .
قال مراد : يا رب .
نزلا من القارب في المكان المعد لذلك ، و ذهبت سلوى إلي بيتها ، و عاد مراد بعد أن رافقها إلي مسكنها ، عاد إلي مصنعه ، فوجده مغلقا بالشمع الأحمر ، و في انتظاره عدد من رجال الأمن ، و ذهب إلي النيابة التي أفرجت عنه لحين الانتهاء من تحليل العينات في المعامل المركزية ، و لما سأل عن الموضوع ؟
قالوا له : لقد كثُر عدد الذين أصيبوا بمرض الفشل الكلوي ، و وصل في الشارع الذي يوجد به المصنع إلي ( 25000 ) خمسة و عشرين ألف مريض ، و قامت وزارة الصحة بفحص الأطعمة ، و الماء ، وكل شيء فلم يعثروا علي أثر ممكن أن يسبب هذه الأمراض ، و عندما شعر أحد مفتشي وزارة الصحة بالجوع ، و ذهب إلي محل و اشترى ساندويتش و تناوله فشعر برائحة لم يتعود عليها ، فقام بتحليل الجبن الموجود بالخبز في المعمل فظهرت أثار مادة الفورمالين ، و عندما عاد إلي المحل و سأله عن مصدر هذا الجبن ؟
قال : إنه اشتراه من مصنع الحج مسعد ، و لذلك لزم اتخاذ و كل الإجراءات التي عرفتها .
عاد مراد من النيابة إلي سكن سلوى ليطمئنها أن الأمور على ما يرام ، فوجد لون و جهها متغير ، و لما سألها عن ذلك .
قالت : بعد أن عدنا من القناطر ، أُصيبت بمغص شديد ، و قيء و إسهال ، لا يتوقف ولما نظرت إلي المرآة ، و جدت أنني و كأني مريضة منذ عشر سنوات ، حاول أن يهون عليها الأمر ، و قال سنذهب للطبيب غدا ، و بعد فحوصات و تحاليل أتضح أن سلوى مريضة بالفشل الكلوي ، و في حالة متأخرة ، ولابد من غسيل كلوي لها .
ذهبت سلوى لأحد المستشفيات للغسيل ، و استدعت النيابة مراد ووجهت له تهمة القتل الخطأ بعد أن اعترف عليه مدير المصنع بأنه كان يعلم بما كان يصنع أبيه في مادة الفورمالين ، و بعد أن انتهى حبس النيابة المتكرر ، و تحددت له قضية ، طلب من مأمور السجن أن يزور خطيبته سلوى في المستشفى ، وهذا هو طلبه الوحيد في الدنيا، و ذهب مع الحراسة إلي المستشفي ، و دخل غرفة سلوى ، و سألها عن حالها فأشاحت بوجهها بعيدا عن عينيه .
و قالت له : قلت لي و نحن في رحلة القناطر إنك لن تتركني أغرق وحدي حتى لو تحديت القدر و ها أنت أغرقتني بيدك و أغرقت معي الكثير من البسطاء ، إن كنوز الدنيا لن تنفع يوم القيامة معك أنت و أبيك .
قال : والحب
قالت : يغرق معي الآن ؟ !!!!!!!
و ستبقى أشعة الشمس الذهبية تنعكس علي صفحة مياه النيل تبحث عن حبيبين لم يقلتهما
الجشع و الغش .
بذنوبنا أعطانا الله جهلا يغنينا عن كل علم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق